المهندس. يحيى حسين عبد الهادي يكتب: هُنَّ الحضارةُ.. والطغاةُ ذُكُورُ

رأي

العنوان مقتبسٌ من بيت الشاعرة الدكتورة سعاد الصباح:

(فرقٌ كبيرٌ بيننا يا سيدى …. فأنا الحضارةُ والطغاةُ ذُكورُ)

فى هذه الأيام حيث (الأسواق مضطربة، والأسعار منفلتة، والاقتصاد بلا هوية، والمواطن هو الضحية) وفقاً لوصف د.زياد بهاء الدين .. تتبدى بطولة المرأة المصرية العادية .. كامرأةٍ خارقةٍ .. جديرةٍ بنوبل للاقتصاد والصبر .. ربة البيت التى تفك بحكمتها شفرة العبارة الرئاسية التى حارت فى فهمها الألباب عن معجزة الانتقال من (كدة) إلى (كدة) لما عملنا (كدة) .. هى البطلة الحقيقية التى تصيبها إنجازات الرئيس وتعتصرها إصلاحاته وتمضى شهرها (كدة) فى سباقٍ للموانع .. ما تكاد تصل إلى خط نهايته حتى تبدأ من جديد .. وهكذا.

كُلُّهُن (كدة) .. تستوى فى ذلك ربات البيوت .. والموظفات من أعلى السُلَّم الوظيفى إلى أدناه .. والفلاحات الشريفات القادمات فجرَ كل يومٍ من ضواحى القاهرة، حاملاتٍ ما أنتجنه من جبنٍ وبيضٍ لترجعن فى نهاية اليوم بجنيهاتٍ قليلةٍ تتعفف بها أسرهن.

هذا عن المرأة العادية .. فما بالنا بأولئك المهمومات بالشأن العام فى دولةٍ لا تتورع عن استخدام أحَّط أدوات التلفيق والتشويه ضد معارضيها .. إذ يبقى لتشويه المرأة فى هذا المجتمع الذكورى مذاقٌ خاص (بالغ المرارة) .. أولئك اللاتى انخرطن (ولا زِلن) فى العمل ألوطنى والسياسى المباشر  بدءاً من كفاية وأخواتها حتى التصدى للتفريط فى تيران وصنافير .. بل حتى أولئك المنشغلات بالعمل العام البعيد عن السياسة .. الحقوقيات والصحفيات وكل أنشطة المجتمع المدنى .. فى عهدٍ يعتبر التنفس بعيداً عن يد الدولة الباطشة مؤامرةً وفعلاً مُجَّرَماً.

لكن الأعوام الأخيرة أضافت لهؤلاء البطلات صنفاً آخر لم تعرفه أدبياتنا من قبل .. نساء المحبوسين السياسيين من كل التيارات بلا استثناء .. وهم كُثْرُ.

عملياً يتَوَّقَفُ نضالُ كل سجينٍ عند قضبان زنزانته وينعزل تماماً عن الدنيا التى كان أحد مشاعلها ومشاغلها .. لكن الراية تستلمها فى نفس اللحظة زوجةٌ أو أمٌ أو ابنة (أو كلهن معاً) .. تحارب فى صمتٍ فى عدة جبهاتٍ فى آنٍ واحدٍ.. ففضلاً عن كونها تُلاطِم الحياةَ التى يُلاطمها غيرها ولكن فى غيبة السَنَد .. وأحياناً فى غيبة الراتب .. وفى وجه دولةٍ تعاديها وأسرتها .. بل لا تعتبرهم أصلاً من رعاياها .. فإنها تشتبك على جبهة قانونية .. وهى جبهةٌ جديدة تماماً على معظمهن .. ما كُنَّ يعرفن مفرداتها من قبل فأصبحت جزءاً من لغتهن اليومية .. جلسة التجديد .. الطعن .. الزيارة .. التحفظ .. المصادرة .. إلى آخر هذه الكلمات التى تُشَّكِلُ كلٌ منها معركةً فرعيةً تنوء بحملها الجبال .. وتخوضها المرأةُ وحيدةً صابرةً محتسبة .. وتخرج منها مثخنةً بالعديد من الجراح الغائرة والعَذابات المرئية أو المستترة .. خذ عندك (الزيارة) مثلاً .. وهى كلمةٌ بسيطةٌ نُطقاً وكتابةً وتوحى بالبهجة والفُسحة .. وتحاول المرأة (الأم/الزوجة/الابنة) أن تجعلها كذلك بالفعل .. لكن الطاغيةَ القابع فى كل تفصيلةٍ فى مسلسل الزيارة يُحَّولها إلى معركةٍ بالفعل .. تبدأ قبلها بأيامٍ للحصول على التصريح .. وإعداد وجبةٍ كان يُفَّضِلُها الحبيب المحبوس .. وتجهيز الأطفال للزيارة .. ثم التحرك بهم قبل الفجر عبر مراحل من العذاب .. إلى أن تصل إلى مرحلة (التفعيص) فى الوجبة .. ثم دقائق الزيارة التى قد تكون من خلف ساترٍ زجاجىٍ لدقائق لا تكفى جملةً مفيدة من طفلٍ لأبيه .. وفى كل مرحلةٍ من هذه المراحل طاغيةٌ صغيرٌ يستطيع أن ينسف كل ما سبق ليعيدها سيرتها الأولى .. نتحدث عن مصرياتٍ فُضلياتٍ وعائلاتٍ كريمةٍ لسجناء سياسيين أو باحثين ذوى رأىٍ مختلفٍ .. لا عن إرهابيين وقَتَلة (مع أن للقتلة واللصوص حقوقاً يجب أن تُصان) .. ونتحدث عن طُغاةٍ صغارٍ ما كان لهم أن يتجبروا إلا برضا ومباركة طاغيةٍ أكبر .. بَنَى جزءاً من دعايته على أنه نصير المرأة .. فماذا لو كان عدوها؟!.

(القاهرة فى ٣١ أكتوبر ٢٠١٨)

Leave a Reply