رمضان جاب الله يكتب: مراد وموسم صيد الغزلان

رأي

كنت في منتصف روايته “موسم صيد الغزلان” عندما تم عرض الفيلم المأخوذ عن روايته “تراب الماس”.

يقول أحمد خالد توفيق أن طفلا ما لو بعثر مكعبات تحمل الحروف الأبجدية، فإحتمال أن ينثر المكعبات علي شكل بيت من قصيدة شعرية لطاغور ليس موجودا. ولو فعلها الطفل فلابد أن نفتش وراء ما حدث.

هذا بالضبط ما يفعله منتقدو مراد اليوم. يقولون أن هذه الروايات كلها لم تأت عن موهبة بل محض صدفة.

أنهيت موسم صيد الغزلان، وفهمت تعوذ البعض من الشيطان عند ذكر إسم الرواية علي وسائل التواصل الاجتماعي.

مراد الذي كان يراجعه الراحل أحمد خالد توفيق في ما سوف ينشر من أعمال ويأخذ رأيه قد أوصل مؤشر الحقيقة والخيال معا للنهاية في هذه الرواية.

يتكلم الكاتب عن الالحاد وعن الإله .هذا تابوه ومقدس كبير حتي عند من يقرأون –الروايات- بالطبع فمن يقرأ خارج الروايات لن يصدمه شئ وسيناقش كل شئ ولكن من يقرأ الروايات فقط سيصدم إن غير الكاتب مواضيع حكاياته من الاجتماعي الي العفاريت والجن ثم إلي سر الكون والخلق مرة واحدة.

يتخيل مراد المستقبل ولا شئ هرس مائة مرة في السينما بقدر تخيل المستقبل ولكن بنفس نبرة صوت ماجد الكدواني الذي كان رائعا في دور ضابط البوليس في فيلم تراب الماس. بنفس نبرة الصوت نجح مراد مراد في تخيل المستقبل.

دون أن أحرق لك الرواية التي أدعوك إلي قرائتها إن كنت تبحث عن الحقيقة وأدعوك أن لا تقترب منها إن كنت تعيش في منطقتك الفكرية الآمنة التي لم يخطر ببالها يوما أن هذا الكون الفسيح الذي تشكل الارض به ذرة رمل في صحراء واسعة هذا الكون خلق عبثا وكيف بدأ وكيف ينتهي.

يسأل علي لسان بطله نديم عن سر الخلق وعن قضية طرد الشيطان من رحمة الله حين رفض السجود لأدم. يتكلم المؤلف علي لسان نديم بطلاقة ويسأل الاسئلة التي لا تستطيع سؤالها في مقال وتذهب بعدها لتشتري شطائر الطعمية الساخنة وتتبعها بكوب شاي ولا تبالي.

نتكلم عن صنعة الراوي أحمد مراد هنا وفي رواياته السابقة.

أولا يختار مراد كل مرة موضوعا جديدا شيقا ورائعته الفيل الازرق أحدثت ضجة بسبب هذا التميز. حتي عندما دخل عرين الاسد في 1919 وكتب في عصر يخاف أن يعبر أحدهم فيه غابة الملك نجيب محفوظ ليحكي عن مصر في مطلع القرن العشرين.لم يفشل بالمرة بل ساعدته باقي ادواته من تصور للشخوص وابتكار أماكن وأحداث للحكي تجعل الرواية لا تفقد متعتها.أما في تراب الماس والفيل الأزرق وموسم صيد الغزلان التي نحن بصددها فقد سحب القارئ إلي ملعبه.

نحن في الخيال يا صاح.أخي القارئ حلق معي بشروطي فإن قبلتها فقد وصلت لمبتغاي.وهو شئ عسير علي كاتب أن يصل لأن تكون روايته ممتعة وتتصدر المبيعات ويكون بها فكرة وقيمة وصنعة أدبية.

الاخيرة مزعجة جدا الان للكاتب.الصنعة الأدبية الان متعبة علي الكاتب وصعبة علي المتلقي .نحن نتكلم عن قراء يقرأون لأن القراءة موضة ونتكلم عن قراء جعلت لغة وسائل التواصل الاجتماعي عضلات اللغة عندهم رخوة وقراء لن يكملوا الرواية إن لم تشدهم أول صفحات كما فعلت أنا تماما مع رواية أحمد مراد نفسه فيرتيجو حتي حين حاولت العودة إليها بعدما قرأت له أعمال أخري لم أستطع إكمالها. فيرتيجولم تكن بها تلك الخلطة المميزة لأحمد مراد.

الكاتب الذي لمت عليه في مقال سابق استعانته بعشرين مساعدا في روايته أرض الاله لا ينفك أن يضع خلطة هي مزيج من معلومات جديدة علي قارئ الرواية .طبعا خلط حقائق تاريخية بحكايات اسطورية هو أمر محبب لكتاب الخيال وهو شئ يفعله أحمد مراد كما تشرب أنت الماء.يستعرض ثقافته دون ملل وهو بهذا يرث العراب الذي كان يحاول أن يحيلك دوما في كل كتاباته لتقرأ خارج الرواية .مراد يفعلها ويحيلك لكي تفكر خارج الرواية.

لا تتعجب من ذكري إسم الراحل أحمد خالد توفيق مرة كل سطرين فلن يخرج مراد عن عبائته حتي لو خرج .كل من له علاقة بأحمد خالد توفيق سواء تخطاه في الشهرة أو في المبيعات مثل مراد أو كان مجهولا يقرأ مؤلفا له تحت ضوء خافت في قرية نائية. كلهم سواسية تحت عباءة كبيرهم الذي علمهم السحر.لن نضيع فرصة دون ذكر إسمه والدعاء له بالرحمة كلما نبغ تلميذ له أو معجب.لن يتعجب أحد مريديه إن فاز أحدهم بنوبل للأدب وفتح قميصه عن صورة للعراب مثل لاعبي كرة القدم.

بعد الموضوع تكون الحبكة بالإتفاق بين القارئ وبين مراد.يقول أحمد خالد توفيق عن صديقه الذي دخل فيلم سوبرمان في السينما وخرج لتوه يصيح: إنه رجل يطير؟! هل أنتم مجانين لتشاهدوا رجل يطير؟ بنفس المبدأ مراد يبني حبكته علي الخارق فلا ترفض ما قد قبلته من قبل من الشاشة. أن يموت البطل ثم يقوم ليمثل دورا أخر.إذا كان هناك رجل يطير أسمه سوبر مان فهناك روبوت علي شكل أنثي يتيم بها بطل روايتنا عشقا دون أن يميزها عن البشر قرابة شهر وهم يعيشون في بيت واحد تقريبا.دعني أخدعك دعني أنخدع هذا اتفاق ليس بجديد علي الفن ولا الكتابة.

بعد الحبكة تكون الشخوص .أحمد مراد له شخوصه المميزة .هي من الحياة وليست من الحياة.وهذه هي زيتونة الكتابة وزيتونة الفن.التي سردها الراحل أحمد زكي في لقاء تلفزيوني معه قائلا:ليس الفيلم الواقعي ما يصور الواقع .إذا نزلت بالكاميرا الشارع وصورت لن تحصل علي فيلم واقعي .بل ستحصل علي عينة عشوائية بها أشكال فقط.

ليس بها أحداث.الواقع يتخيله الفنان من رؤيته للواقع.هذا ما حدث في تراب الماس تحديدا.

بعد الشخوص تكون الصنعة وهي أدوات الكتابة.أزعم أن مراد إقتراب في بعض القطع من لغة قلما وصل لها كاتب يكتب بالعربية.لا أتكلم عن البلاغة.فقد إنغلق هذا الباب تقريبا بوفاة عمالقة مثل طه حسين ومحفوظ والعقاد.هنا نتكلم عن شئ أخر.شئ لو نجحت في إيصال معناه لك فقد فعلت جزءا منه.وهو أن تكون الكلمات منتقاة بالضبط لتصف ما يريد الكاتب أن يقوله لك.ان تكون الكلمات كافية لتتخيل المكان والزمان والشخوص وتصنع لك فيلمك الخاص ولا تخرج منه إلي أن تنتهي الرواية.كلمات بالفصحي ولكنها مفهومة وليست ركيكة وليست معقدة.جديدة وليست غريبة.

نجح مراد في هذا تماما وتحديدا في وصف النساء بطلات قصصه.لا أعرف أهذا عيب أم ميزة ولكن الرجل قد يصنف ببعض القطع التي كتبها في الوصف كأساطين نثر الغزل الصريح وليس العفيف طبعا.

هذه قصة أخري فالحكم الاخلاقي علي كتابات الرجل يبخسه حقه لأنه ماهر في الغزل الصريح وماهر في الوصف.

ياللعنة!!لقد جعلنا نتعلق بروبوت من قدرته علي الوصف المبهر.وللاسف المغالطة المنطقية الاشهر لدي العامة هي الحكم علي الكتابة من الناحية الدينية أو الاخلاقية.مثلما حدث مع رائعة محفوظ أولاد حارتنا.

لا يكتب الكاتب رواية ليعلمنا الاخلاق ولا الدين.بل ليحكي حكاية جميلة نتخيلها ونستمتع بقرائتها ويضيف شيئا للمعني بلغته ووصفه وفكرته وشخوصه .

إستخدم مراد العامية وسط الحوار دون معني وبعشوائية مخلة لا تعرف لها سببا أحيانا.أيضا إسترسل في أماكن قد تجبر القارئ أن يتخطي الصفحات بحثا عن هواء جديد ورتم سريع كما عوده الكاتب.مفاجأة صيد الغزال في نهاية الرواية لم تكن محببة للقلب كما هو متوقع ولكنها كانت تطير مثل سوبرمان أكثر من اللازم .رغم أن الكاتب مهد لهذا كثيرا بخيال شاطح ولكن في النهاية هي الخاتمة التي إختارها الراوي ويمكن أن تعجب جمهوره.

لا أظن هذه الرواية تصلح أن تكون فيلما نظرا لأسباب كثيرة أولها فكرة الالحاد التي يمكن أن تبث علي الورق عن طريق شخص في الرواية ويصعب تقديمها بالسينما وأيضا موضوع الرواية يتطلب إنتاجا كبيرا لا يوجد في مصر لكي يخرج كما خرجت روايتا الكاتب السابقتين الفيل الازرق وتراب الماس

في إنتظار إبداع أخر مختلف عليه ومتصدر للمبيعات من مراد

Leave a Reply